يُعتبر يوم عرفة من أعظم أيام السنة لدى المسلمين، فهو يوم يقف فيه الحجيج على صعيد عرفات الطاهر، رافعين أكف الضراعة إلى المولى عز وجل، بينما يشاركهم المسلمون في شتى بقاع الأرض هذه الروحانية بالصيام والدعاء والذكر. إنه يوم تتجلى فيه رحمات الله، وتُسكب فيه العبرات، وتُستجاب فيه الدعوات، يوم هو بمثابة وصلٍ بين الأرض والسماء، وفرصة لا تُعوض لتجديد العهد مع الله وطلب العفو والمغفرة.
فضل يوم عرفة العظيم: دنوٌّ إلهي ومباهاةٌ ملائكية
إن ليوم عرفة مكانة خاصة ومنزلة رفيعة، فهو ليس مجرد يوم عادي في التقويم الهجري، بل هو يوم عظيم يدنو فيه رب العزة جلّ في علاه دنوًا يليق بعظمته وجلاله، ليغفر لمن تاب، ويستجيب لمن دعا، ويعطي كل من سأل. إنه يوم العتق من النيران، ويوم تحقيق الأمنيات.
وقد ورد في فضل هذا اليوم العظيم ما يثلج الصدور ويُحيي القلوب، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
“ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟”
الراوي: عائشة أم المؤمنين | المحدث: مسلم | المصدر: صحيح مسلم – المصدر الدرر السنية
تأمل هذا الحديث العظيم! الله سبحانه وتعالى، ملك الملوك، يدنو من عباده في هذا اليوم، ويباهي بهم ملائكته الكرام. أي شرف وأي فضل أعظم من هذا؟ إنه يوم تتجلى فيه رحمة الله الواسعة وكرمه الذي لا حدود له.
صيام يوم عرفة: كفارة لعامين من الذنوب
لمن لم يُكتب له الحج، فإن صيام يوم عرفة يُعد من أفضل الأعمال التي يمكن أن يتقرب بها المسلم إلى ربه. فصيامه يكفّر ذنوب سنتين، سنة ماضية وسنة قادمة، وهو فضل عظيم لا ينبغي التفريط فيه.
فعن أبي قتادة الحارث بن ربعي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن صَوْمِ يَومِ عَرَفَةَ، فَقالَ:
“يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ.”
الراوي: أبو قتادة الحارث بن ربعي | المحدث: مسلم | المصدر: صحيح مسلم – المصدر الدرر السنية
فهل نعي فضل هذا اليوم وعظمته؟ هل نترقب هذا اليوم وننتظره بشوق لننال هذا الأجر العظيم؟
يوم عرفة: يوم الدعاء المستجاب وتحقيق الرجاء
يوم عرفة هو يوم الدعاء بامتياز، يوم الرجاء والأمل، يوم تُفتح فيه أبواب السماء، وتُستجاب فيه الدعوات بإذن الله. إنه اليوم الذي يخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خير الدعاء دعاء يوم عرفة.
تخيل أن ملكًا من ملوك الدنيا، ذو قوة ونفوذ ومال عظيم، دعاك ودعا الناس جميعًا ليسألهم عن احتياجاتهم وما يريدون، وأخبرهم بأنه سيعطيهم ما يطلبون مهما كان – بيتًا، سيارة، مالًا. ألن تذهب إليه مسرعًا؟ ألن تُعِدَّ قائمة طلباتك؟ ألن تقاتل من أجل أن تكون هناك لتنال نصيبك من كرمه؟
ولله المثل الأعلى! فالله سبحانه وتعالى، ملك الملوك، يدنو في هذا اليوم ويدعوك ويقول لك: اطلب ما شئت دون وسيط أو ترجمان. يقول لك: “سَلْ تُعْطَ، وادعُ أُجِبْ لك”. فما بالنا لا نُكثر من الدعاء في هذا اليوم العظيم؟ هل جمعت كل حاجاتك ورغباتك لتطلبها من الكريم الوهاب في هذا اليوم الذي لا يُردُّ فيه سائل بإذنه؟
كيف نستعد ليوم عرفة ونغتنم ساعاته؟
إن الاستعداد ليوم عرفة لا يقل أهمية عن إدراك فضله. إليك بعض النصائح لاغتنام هذا اليوم المبارك:
- تهيئة النفس والقلب: ابدأ بتهيئة نفسك روحيًا وقلبيًا. جدد نيتك، واستشعر عظمة هذا اليوم، وأقبل على الله بقلب خاشع ونفس مشتاقة.
- تخصيص الوقت للدعاء والذكر: حاول أن تخصص جُلّ وقتك في هذا اليوم للدعاء والذكر وقراءة القرآن. هذا اليوم ليس يومًا للهو أو النوم أو الانشغال بالدنيا.
- الابتعاد عن المشتتات: ابتعد قدر الإمكان عن كل ما قد يشغلك عن العبادة، خاصة الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي. أهجره ليوم واحد فقط، فهذا اليوم أثمن من أن يضيع في توافه الأمور.
- الإلحاح في الدعاء: ارفع يديك إلى السماء، ناجِ ربك، أخبره بكل حاجاتك ورغباتك، وألِحَّ عليه في الدعاء، فالله يحب العبد اللحوح.
- لا تنسَ إخوانك: لا تنسَ في دعائك إخوانك المسلمين المستضعفين والمظلومين في كل بقاع الأرض. ادعُ لهم بالنصر والتمكين والفرج.
فرصة لا تُقدَّر بثمن
كل عام، قد تغيب عنا ليلة القدر فلا نعرف متى هي على وجه التحديد، وهي ليلة عظيمة ينزل فيها جبريل والملائكة. فما بالك بيومٍ نعلم ميقاته وموعده بدقة، ويخبرنا عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن دنوِّ الله فيه وعتقه لعباده من النار؟
إنه يوم عرفة، فرصة سنوية ثمينة لتطهير النفس، وغفران الذنوب، ورفع الدرجات، وتحقيق الأمنيات. فلنحرص على استقباله خير استقبال، ولنجتهد في اغتنام كل لحظة من لحظاته، عسى أن نكون من عتقاء الله من النار، ومن الفائزين برضوانه وجنته.
